الغروب ..
أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أَخَذَه الهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزَمَني زَمَني ما لا أُطيق ..
فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فَحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُمومَها في دِمائي فَلا تُجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، المعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَني لِحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الخوفَ عنّي .. أسيرُ نَحوَ المِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت في رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ المِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ في عَينيَّ .. أَسيرُ في المَمَرِّ الضيقِ المُؤدي إلى المغسَلِ أَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى المِرآةِ المُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ أَمامي لَكِن يَدي تَجَمَّدَت على مِقبَضِ الحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ المَعروقَةُ هِيَ التي تُحكِمُ إِغلاقَ المِقبَضَ بِحِرصِهِ الشديدِ على الماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا.. أُغادِرُ المَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته المُمَيَّزَةُ ما تَزالُ في المَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. خُيِّلَ إِليَّ أني أَسمَعُ شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ في الصفحةِ المفتوحةِ أَمامي :" إِنَّما تقتُلُنا الحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ التهربَ مِنَ الحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَمضي الوقتُ ، لا أَبحَثُ عَن ساعَةٍ حائِطيَّةٍ و لا يَدَوِيَّةٍ و لا حتى رَملِيَّة .. فَقَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنزافَها المريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه المتاهةِ فَأُغادِرُ المكانَ نَحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبى الثبات فالأماكِنُ تَأبى الحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَحوَ غرفةِ نَومي مرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها في مَكانِها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها المُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،المُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها المُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْني إلى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأني لا أَعرِفُ صاحبَها ..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَني أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّي، إذ أَنسى العالمَ مِن حَولي و أَنسى كثيرًا مما ظَنَنْتُ أَني لا أَنساه ..و لكنني أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بالصورةِ لَم تَكُن إلا صورَتي أَنا ..